الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (7- 15): {يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}.التفسير:فى هذه الآيات نجد ما يأتى:أولا: قد استجاب اللّه لزكريا ما طلب، وهو في مقام الدعاء لم يبرحه بعد.وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى} [39: آل عمران] كما يشير إلى هذا أيضا، ما جاء عليه النظم القرآنى في هذه الآية، حيث لم تصدّر بقول، بل جاءت بمقول القول هكذا: {يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى}.وهذا يعنى أن زكريّا كان في مقام التخاطب مع اللّه سبحانه وتعالى.. فهو يدعو، واللّه سبحانه وتعالى يسمع ويجيب.وثانيا: أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي اختار للولد اسمه، فسمّاه {يحيى}.وهو اسم لم يسمّ به أحد قبله.وفى تسميته بيحيى، إشارة إلى أنه سيبقى له ذكر مخلّد في هذه الحياة، وأن حياته ستمتدّ بعد موته، بما يجرى على ألسنة الناس من ذكره، في مقام الحمد والثناء..!وثالثا: أن عجب زكريّا ودهشه من أن يولد له ولد، وهو يعلم أن اللّه سبحانه لا يعجزه شيء، وأنه إذ يعلم هذا فقد طلب الولد، وهو في حال لا يولد منه ومن امرأته العقيم ولد- نقول: إن عجبه ودهشه لم يكن متوجها إلى اللّه سبحانه وإلى قدرته، وإنّما كان عجبا ودهشا من نفسه ومن زوجه أن يكون لهما ولد، وأن يراهما الناس وقد ولد لهما بعد هذا الزمن الطويل الذي عاشاه بغير ولد.. وقد جاء قوله تعالى: {قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} جاء هذا القول من اللّه تعالى، ليسكن به قلب زكريّا الذي طارت به الفرحة، واستبدّت به المفاجأة بهذا الأمر العجيب! ورابعا: استعجل {زكريا} الإمساك بهذا الولد الذي كان حلم حياته، فأراد ألّا يخرج من هذا المقام الذي هو فيه، دون أن يكون بين يديه أثر من هذا الولد، يمسك به، ويتعلل بالحياة معه، حتى يحين مولده، ولهذا قال: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}! فهو يريد الآية التي يرى من خلالها وجه هذا الغلام، الذي طال انتظاره له.. فجاء قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا}.فكانت آيته أن يحبس اللّه لسانه عن الكلام لغير علة ثلاثة أيام، وثلاث ليال كاملة، لا يتعامل مع الناس فيها إلا بالرمز والإشارة.وقد جعل بعض المفسّرين هذه الآية ضربا من الأدب، أو نوعا من العقوبة لزكريا، على اعتبار أن طلب الآية إنما هو لطلب اليقين من قدرة اللّه! وهذا فهم لا يستقيم، مع تلك النعم، وهذه الألطاف التي يفيضها اللّه على عبده زكريا.والفهم الذي نستربح له هنا، هو أن هذا الصوم عن الكلام إنما كان عبادة يتقرب بها زكريّا إلى اللّه، إزاء تلك النعمة التي أنعم اللّه بها عليه.. ثم هو إشارة إلى الناس الذين سيطلع عليهم زكريا بأن حدثا عجيبا سيحدث، وأنهم في وجه معجزة، وشيكة الوقوع.. وهذا ما كان من موقف مريم حين ولدت عيسى، فقد أمرها اللّه سبحانه وتعالى، أن تلقى قومها صائمة عن الكلام يوما.. كما سيأتى في هذه السورة وقد عرضنا لهذا الأمر في سورة آل عمران.وخامسا: في قوله تعالى: {يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} نداء من اللّه ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو في عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو في عالم الشهادة.إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند اللّه، ومع قدرة اللّه، وفى علم اللّه.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!!وهكذا سيكون {يحيى} على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد في تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو في سن الصبا.. {يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها في الأمور التي تعرض له..تفسير الآيات (16- 36): {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}.التفسير:هذه الآيات تحدث عن قصة مريم، وعن ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، على تلك الصورة العجيبة، التي جاءت على غير مألوف المواليد من الأحياء في عالم البشر خاصة.وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران، تالية لقصة ميلاد يحيى، كما جاءت على هذا الترتيب هنا.غير أننا إذ نكتفى بما قلنا في تفسير الآيات الواردة عن هذه القصة في آل عمران.. نودّ أن نفسر هنا بعض المفردات، ثم نشير إلى ما لابد من الإشارة إليه من مضامين القصة الواردة هنا.انتبذت: انتحت ناحية، وأخذت مكانا خاصا.. وفى التعبير عن هذا بالانتباذ، ما يشير إلى أنها كانت في حال خاصة، تتكرّه فيها أن تختلط بالناس.والرّوح: الملك، ويغلب أن يكون وصفا خاصا بجبريل عليه السلام.والبغيّ: الفاجرة الزانية.. وهو من البغي والعدوان.أجاءها المخاض: ألجأها واضطرها.. والمخاض ما يعترى المرأة وقت الولادة.والنّسى المنسيّ: الشيء التافه الذي لا يحرص أصحابه على الإمساك به، ولا يذكرونه إذا ضاع منهم.والسّرىّ: النهر الصغير، الذي يسرى في رقة وسكون.. والسّرىّ:العظيم من الناس، المحمود فيهم.والشيء الفرىّ: هو الغريب العجيب، الذي يجيء على غير مألوف الناس، فيفرى: أي يخرق عاداتهم.والذي نريد أن نشير إليه من هذه القصة:أولا: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ}.هو تنويه بشأنها، وذلك بإفساح مكان لها في القرآن الكريم، تذكر فيه، مع من يذكر من عباد اللّه المخلصين.وثانيا: في سورة آل عمران، جاء قوله تعالى: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [45: آل عمران].فالخطاب موجه إلى مريم من جماعة من الملائكة.. وهنا في سورة مريم يكون الخطاب بينها وبين ملك واحد: {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا}.{قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا}... فما وجه هذا الخلاف في الموضعين، والقصة واحدة؟.ونقول: إن المراد بالملائكة هناك هو عالم الملائكة، الممثل في واحد أو أكثر كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [173: آل عمران] حيث يصح أن يكون القائل واحدا من الناس لا جماعة منهم.والذي يشهد لهذا أنه حين استمعت مريم إلى ما حدثها به عالم الملائكة وأظهرت عجبا واعتراضا على ما حدّثت به- كان الذي تولى دفع هذا العجب وردّ هذا الاعتراض، ملك واحد.. كما جاء في قوله تعالى: {قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} [47: آل عمران].وثالثا: لم تشر الآيات في آل عمران إلى أن أحدا من الملائكة قد تمثل لها في صورة بشر، وهنا قد أشارت الآيات إلى أن الروح قد تمثل لها بشرا سويا.فما جاء هنا مكمل للصورة التي جاءت هناك، شارح لها، على حين يمكن أن تستقل كل صورة بالكشف عن الحدث، دون أن يختلف وجه الحقيقة بينهما.ورابعا: في قوله تعالى: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} إشارة إلى أن عيسى عليه السلام قد ولد ميلادا طبيعيا من رحم أمه، كما يولد غيره من الناس، وكما تلد الأمهات أبناءهن.. وأن مريم قد حملت به حملا طبيعيا، حتى إذا استوفت مدة حمله، وأحست بالمخاض لجأت إلى جذع نخلة، واستندت إليها، حتى تجد القوة على دفع الحمل من رحمها.وخامسا: قوله تعالى: {فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}.اختلف في المنادى لها: أهو ملك؟ أم وليدها الذي بدأ يتحرك إلى العالم الخارجي؟.والذي نأخذ به، هو أن المنادى لها، لا يكون ملكا، إذ لو كان ملكا لناداها من علوّ، وهو الجهة المتنزل منها.. وأنه إذا كان المنادى ملكا فلم يجيء إليها من تحت لا من فوق؟ وإذن فالمنادى لها هو من كان تحتها بالفعل، وهو وليدها!.وفى حديث وليدها إليها في هذا الوقت، ما يكشف لها عن التجربة التي ستواجه بها قومها منه، حين تدعوه إلى الكلام، فيتكلم.. ولو أن عيسى لم يكن قد تكلم إليها، وأسمعها صوته من قبل، لما وجدت الجرأة على أن تلقى قومها بالطفل، ثم تلقاهم بهذا التحدّى، وهو أن تدعوهم إلى الاستماع إليه! ومما يؤيد هذا الرأى قراءة من قرأ: {فَناداها مِنْ تَحْتِها} باعتبار من اسم موصول يقع فاعلا، للفعل، {نادى}.وسادسا: في قوله تعالى: {يا أُخْتَ هارُونَ}.اختلف في هرون هذا.. من يكون؟ أهو هرون النبيّ أخو موسى؟أم هو أخ لها من أبيها؟ أم هو رجل صالح معروف بين قومها بالتقوى؟ أم هو رجل فاجر يضرب به المثل عندهم لكل من يأتى منكرا؟والذي نأخذ به أن {هارون} هذا هو هارون النبيّ، وقد أضيفت إليه، ولم تضف إلى موسى، لأنها كانت من نسل هارون، ولأن موسى لم يعقب نسلا.وأضيفت إليه إضافة أخوة، لا إضافة بنوّة، لأن أبناء هرون، وذريته المتعاقبة منهم لم يكونوا على حال واحدة من الاستقامة والتقوى، ففيهم الصالح، وفيهم الفاسد،.. فهى وإن كانت بنت هرون نسبا، هي أخته وصنوه استقامة وصلاحا!.وسابعا: قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}.هو تعقيب على القصة، وعلى ميلاد هذا المولود على تلك الصورة التي أوقعت كثيرا من الناس في الضلال، فاتخذوا منه إلها، وجعلوه وجها من وجوه ثلاثة جعلوها للّه، هي الأب، والابن، وروح القدس.وهذا التعقيب، قد يكون على لسان عيسى عليه السّلام.. كاشفا به عن حقيقته، وأنه إن يكن قد ولد لغير أب، أو تكلّم يوم مولده، فإن ذلك لم يكن ليخرجه عن حدود البشرية، ولم يكن ليجعل له إلى الألوهية سبيلا من أي وجه، وعلى أية صفة.. وقد يكون ذلك قولا ينبغى أن يقوله كل من يستمع إلى آيات اللّه التي تحدّث بها القرآن، عن مولد عيسى، فيصدّق بها، وينظر من خلالها إلى جلال اللّه وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.فالذين يمترون في عيسى، ويجادلون في أمره، بين من يرميه بأنه ابن سفاح، وبين من يقول إنه إله أو ابن إله- هؤلاء الذين يمترون فيه، قد كشف لهم عيسى عن وجهه، وتحدث إليهم بلسانه.. إنه عيسى بن مريم، وذلك هو القول الحق الذي ينبغى أن يقال فيه.. فهو ابن امرأة، لم تجئ به من رجل، وإنما من نفخة تلقتها من روح اللّه.. وانتماؤه أولا وأخيرا إلى أمّه، التي حملت به، ووضعته وأرضعته.. أما القول بأنه ابن اللّه، فهو قول آثم، سفيه {ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولو شاء- سبحانه- أن يخرج عيسى إلى هذه الدنيا من غير أب أو أم لما كان ذلك بالمعجز لقدرة اللّه.. {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [59: آل عمران].ويكفى أن يكون آخر ما نطق به عيسى أن قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ويكفى أن يكون آخر ما نطق به في مهده: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} يكفى هذا ليكون شهادة تبطل كل قول يقال فيه، غير الذي نطق هو به..تفسير الآيات (37- 40): {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)}.التفسير:قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.الأحزاب، هم الطوائف والجماعات، التي اختلفت في شأن المسيح، وهم اليهود والنصارى، على مختلف مذاهبهم فيه.فاليهود، يقولون عنه إنه ابن زنى، أو إنه ابن رجل كان يخدم مع أمّه في الهيكل، اسمه يوسف النجار.والنصارى، يقولون: إنه ابن اللّه، أو إنه هو اللّه ذاته، يمثّل أحد أوجه الثالوث المقدس للّه- كما يزعمون- وهو وجه الابن.والفاء في قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ} هي فاء التفريع، التي تفيد العليّة والسببيّة، حتى لكأن دعوتهم إلى عبادة اللّه، واعتبار المسيح عبدا من عباده اللّه- لكأن هذا كان داعيا لهم، إلى أخذ هذه السبل الضالة المنحرفة.وهكذا الطباع غير السليمة، تتلقى النّصح بقلوب مريضة، تتأبّى عليه، وتأبى إلا أن تأخذ بالوجه المخالف له.وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو وعيد، وتهديد لهؤلاء المختلفين في شأن المسيح، وفى النظر إليه على مستوى دون، أو فوق مستوى رسول من رسل اللّه.. فكل من قال فيه قولا يخرج به- صعودا، أو نزولا- عن هذا المستوي، فهو كافر، له الويل والهوان من عذاب يوم القيامة.قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا}، هو تعجب من رفاهة سمعهم، وحدّة بصرهم، يوم القيامة.والمراد بهؤلاء المتعجّب من سمعهم وبصرهم، هم أولئك الكافرون، الذين اختلفوا في أمر المسيح هذا الخلاف الأثيم الضالّ، فلم يسمعوا ما قيل لهم على لسان المسيح، ولم يعقلوه، ولم يكن لهم من أبصارهم وبصائرهم ما يعدل بهم عن طريق الضلال التي ركبوها، فمضوا على هذا الضلال، ودخلوا به مداخل الكفر، حتى ماتوا على ما هم عليه.. من ضلال وكفر.فهؤلاء الذين أصمّوا آذانهم، وأغمضوا أعينهم في الدنيا، سيكونون يوم القيامة على حال من قوة السمع، وحدّة البصر، بحيث لا تفوتهم همسة، ولا تغيب عن أعينهم كبيرة أو صغيرة.. هنالك تتردد في آذانهم أصداء ما سمعوا من آيات اللّه، وينكشف لأعينهم ما عموا عنه في دنياهم من أمارات الهدى.فلا يملكون إلا الحسرة تقطّع أكبادهم، وإلا الألم ينهش صدورهم لما فاتهم من أمور كانت ترد على سمعهم، وتحتشد أمام أنظارهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق].وقوله تعالى: {لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.لكن هنا للاستدراك والتعقيب على هذا الوصف الذي يكون عليه هؤلاء الظالمون يوم القيامة.. إنهم يوم القيامة سامعون مبصرون.. لكنهم اليوم، أي اليوم الذي هم فيه في الدنيا، في ضلال مبين، لا يسمعون ولا يبصرون.قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.هو خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم، وهو أمر له صلوات اللّه وسلامه عليه بأن ينذر المشركين، وأن يحذّرهم من يوم الحسرة، وهو يوم القيامة، حيث تشتد فيه حسرة الذين غفلوا عن هذا اليوم، ولم يعملوا له، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} [27: الفرقان]. وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} [40: النبأ].وفى توجيه الأمر بالإنذار إلى المشركين، بذكر ضميرهم، العائد على غير مذكور.. هكذا: {وَأَنْذِرْهُمْ} في هذا إشارة إلى أنهم بعض هؤلاء الضالين الكافرين الذين ذكروا قبلهم في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا}.فأهل الضلال- أيّا كانوا- هم كيان واحد، لا خلاف بين من تقدّم منهم، أو تأخر، ولا فرق بين من يكون من هؤلاء القوم، أو أولئك..!وفى قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} تخويف لهؤلاء المشركين. وإلفات لهم من أن تفوتهم الفرصة، ويفلت منهم العمر، قبل أن ينزعوا لباس الكفر والضلال، ويلبسوا لباس الهدى والإيمان.قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ}.هو تذكير لهؤلاء المشركين، بأن ما هم فيه من شغل بمال وبنين، ومن انصراف عن الآخرة، والعمل لها- إن هذا لن يكون لهم منه شيء، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وأنه إذا ورثهم أبناء، وورث الأبناء أبناء.. إلى ما شاء اللّه، فذلك كله إلى نهاية ينتهى عندها، حيث لا وارث إلا اللّه سبحانه.. وحيث يحشر الناس إليه مجرّدين من كل ما كان لهم في الدنيا من مال، وولد، وأهل، وصديق، وجاه وسلطان!
|